سورة الأنفال - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام. وقال: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} [الأنفال: 34] بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية.
قال صاحب الكشاف: المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر، والمكاء الصفير. ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه.
وأما التصدية فهي التصفيق. يقال: صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه، وفي أصلها قولان: الأول: أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل.
الثاني: قال أبو عبيدة: أصلها تصددة، فأبدلت الياء من الدال. ومنه قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] أي يعجزون، وأنكر بعضهم هذا الكلام، والأزهري صحح قول أبي عبيدة. وقال: صدى أصله صدى، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء.
إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزؤون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته، وقال مقاتل: كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته. فعلى قول ابن عباس: كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم. والأول أقرب لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً}.
فإن قيل: المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة؟
قلنا: فيه وجوه:
الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم.
الثاني: أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي. أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هاهنا.
الثالث: الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له، كما تقول العرب، ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له.
ثم قال تعالى: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي عذاب السيف يوم بدر، وقيل: يقال لهم في الآخرة: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية.
قال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، هكذا قاله صاحب الكشاف. ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله، أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك.
ثم قال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} يعني: أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة، لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله: {والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} ففيه بحثان:
البحث الأول: أنه لم يقل: وإلى جهنم يحشرون، لأنه كان فيهم من أسلم، بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك.
البحث الثاني: أن ظاهر قوله: {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم، لأن تقديم الخبر يفيد الحصر.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الانفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق، ثم قال: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} وفيه قولان:
القول الأول: ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً وهو عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا كقوله تعالى: {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدا} [الجن: 19] يعني لفرط ازدحامهم فقوله: {أولئك} إشارة إلى الفريق الخبيث.
والقول الثاني: المراد بالخبيث نفقة الكافر على عداوة محمد، وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها كقوله تعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] واللام في قوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث} على القول الأول متعلق بقوله: {يُحْشَرُونَ} والمعنى أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب، وعلى القول الثاني متعلق بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ثم قال: {أولئك هُمُ الخاسرون} وهو إشارة إلى الذين كفروا.


{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)}
اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية، وعباداتهم المالية، أرشدهم إلى طريق الصواب وقال: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي قل لأجلهم هذا القول، وهو: {إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ} ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا.
المسألة الثانية: المعنى: أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول، ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وإصروا عليه فقد مضت سنة الأولين. وفيه وجوه:
الأول: المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.
الثاني: فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.
الثالث: أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} [الصافات: 171] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر {أَنَّ الارض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} [الأنبياء: 105].
المسألة الثالثة: اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لوجوه:
الأول: هذه الآية، فإن قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} يتناول جميع أنواع الكفر.
فإن قيل: الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زنذقته أم لا؟
قلنا: أحكام الشرع مبنية على الظواهر، كما قال عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» فلما رجع وجب قبول قوله فيه.
الثاني: لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق.
الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} [الشورى: 25].
المسألة الرابعة: احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع، قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها، لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر. والأول باطل بالإجماع، والثاني باطل؛ لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية.
المسألة الخامسة: احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها، ووجه الدلالة ظاهر.
المسألة السادسة: قال عليه السلام: «الإسلام يجب ما قبله» فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه.
وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة، وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة؟

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10